shimery.com
New Page 1
 
shimery.com



سفارة اليمن بمصر


مقالات                      

تفاصيل المقالة
مقدمة ديوان هواجس غريب  
 مقدمات كتب آخرين

الغريب صاحب الهواجس: هو شاعر بالسليقة، موهوب بالفطرة، نشأ في قرية من بلادي ميراب وبادية شمير، في بواكير صباه، وعنما كان برعماً في مدرسته لمحت فيه غموض المتوثب للشعر، ورأيت له ملامح التأثر بالنصوص الشعرية، وسمعت له قصائد في المناسبات، بين أروقة المدارس، وحين أحضر الاحتفالات وما حسبته أن يأتيني يوماً بعد عشرين سنة بجواهر من أنقى الكنوز، ولآلئ من أروع الروائع، شعر أرق من النسيم، وأعذب من الشهد، أطلق عليه: (هواجس غريب).
هذا الشاعر كغيره من كثير الشعراء، صاحب شعور بالغربة، وذو هواجس غريبة، تمازجت في عالمه الشعوري حياة مشطورة بين تباريح الماضي التليد، وقيم الحياة المثالية حين لا قيود ولا حدود، تلك المثالية التي نعود إليها كلما أبكانا جرح، أو اعتصرنا ألم. وبين واقع من الحياة الحديثة نعيشه في عصر مليء بما لا تقبله البهائم، فما بالك بالشاعر؟! الشاعر المرهف الرقيق، وهيهات للشاعر من حدود.
محمد عبدالغني عبدالرحيم من نوابغ الشعراء في زمن التشرذم الفئوي في قبيلة الشعر، وهو متوهج الضوء في ليالي احتباس القمر، وعذب الذائقة عند تعكر ماء المنهل.
نشأ متأثرا بالشعر في بيئة ليس فيها شاعر واحد أستطيع أن أنسبه إلى التأثر به، لكن ربما كانت جمهرة الشعراء عبر العصور من خلال دواوينها المنشورة تحضر في مكونات ثقافته، ومكنونات وجدانه، فتظافرت بأنواعها في منابع موهبته فكان هذا الشاعر المفطور بموهبته طبعا لا تطبعا.

هواجس غريب:
ديوان فصيح، توزعته قصائد العمود الخليلي، وقليل من قصائد التفعيلية الحديثة، كما تضمن شيئا من النصوص الشعرية ذات الإيقاعات القصيرة، من نظم، وشعر، ونثر، لغرض الدخول بها إلى عالم المسرح الشعري.
ولهذا الديوان أقسام خمسة، وتحت كل قسم غرض شعري من الأغراض الخاصة بالشاعر، هي: مع الشعر، مع الوطن، مكانيات، بين الأمس واليوم، مطارحات، وتحت كل قسم عدد من القصائد التي تقاربت، وتباعدت، واتفقت، واختلفت، بين مضمونها الشعري، وأنفاسها الشعرية.
لم أجد في عناوين القصائد ما يختلف عن مضامينها، كما لم أجد في المضمون ما لا يبشر به العنوان. فالاتحاد الموضوعي من سمة هذا الديوان.
ولست بمستغرب تطور النص في ديوان الشاعر بتطور اتساع ثقافة الشاعر، فهذه القصائد مرآة عاكسة لمراحل النمو التكويني في موهبة الشاعر، فالقصائد ذات السن المبكرة من عمر الشاعر كانت تعيش أجواء التأثر لفظاً والتأثر فكراً، والتأثر شكلاً.
ومع تغير المراحل، والرحلات، والمجالس والجلاس، تغيري السايقات التعبيرية، وتنوعت الموضوعات الشعرية سواء ما كان منها داخل القصيدة، أو حلتها الكلية.
ذلك رغم قلة رحلاته خارج محافظة تعز، سواء منها للدراسة أو للعمل كما ذكر في التعريف بالشاعر، ومع ذلك كانت واضحة الدلالات، واسعة البعد العاطفي والوجداني، في قاموس الشعر اللفظي، وناموسه الفكري، فقد تملك من الصراحة ما مكنه من التعبير الصريح بما كان غير قادر على الإفصاح به سلفاً.

مع الشعر:
ثمة تماهٍ عجيب بين الشعر والشاعر، جعل كلا منهما يستبطن الآخر، وهذه الحميمية الوجدانية كانت محط كثير من التجارب الشعرية التي أغمض الشاعر فيها عينيه عن الوجود، وراح يتغنى بالقصيدة.. تارة ملفعة بصقيع الوجع، وتارة محلقة في فضاء البوح، وتارة شبابة عشق، وجذوة وجد لا تنطفي، وتارة ترنيمة حكمة عتقتها الإنسانية في حلل من المعاني الحسان.
لقد أغرت القصيدة عبر تاريخها الطويل كثيراً من الشعراء بالتغني بها، والدخول إلى حرمها المقدس سدنة عشق وكهان جمال، فهذا (لا مرتين) يعتبرها موكباً من الضوء، وانضم إليه كوكبة من الشعراء العرب لعل أبرزهم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي الذي جعل الشعر فم الشعور، وصرخة الروح، وراح يخلع عليه حللاً من الأوصاف تجعل منه محور حياته ومدار وجوده.
ولقد انضم شاعر الهواجس إلى هذا الركب مريداً مخلصاً يرقع عقيرته شاكياً للقصيدة حاله الدمع:
يا ابنة الوجدان
وجداني غدا يبكي حزينْ
وبساتيني غزاها الجدبُ
لمّا غبتِ عنّي
في نواحيها يجول الصمتُ
من غصن لغصنِ
جفّت الغدرانُ..
والأطيار ما عادتْ تغنّي
وفي قصيدة أخرى يدخل (جنّة الشعر) يجول بروض المنى، وبساتين من جنة الروح، حيث صفاء النفس، ومتعة العيش، وطيب الوصال:
أصوغ من الشعرِ ما راقَ لي
وألقى به الهَّم عن كاهلي
أجول بروض المنى أينما
تكون ولا شأن للسائلِ
بساتين جنة روحي هنا
يطيب بها الوصل للواصلِ
تحلق روحي بخضرائها
وبهجة عارضها الهاطلِ
وتحتل القصيدة بمفرداتها المتنوعة (الشعر- الغناء- اللحون- الشدو- القريض- التغريد...إلخ) مساحة شاسعة في هذا الديوان، بلغت ستة نصوص مكتملة، إضافة إلى إشارات توزعتها معظم قصائد هذه المجموعة تأكيدا على التمازج والاندغام بين شاعر الهواجس وهواجس الشاعر، وامتدادا لمسيرة البوح في حرم القصيدة.

مع الوطن:
يمكن توصيف شعراء جيل الشباب بأنهم أبناء النكبة.. عاشو مرارتها، واصطلوا هواجرها، وترنحوا تحت مطارقها، وشهدوا مصرع الابتسامة في فلسطين والعراق وفي كل مظاهر التخاذل المقيت والموت السريري الذي يشهده الوطن من الخليج إلى المحيط.
ولقد انعكس ذلك في سرائر الشعر، ودواخل الشعراء، فعاشوا منفى اختياريا، وهربوا من الوطن إلى عوالم الذات حيث تتضخم الأنا على حساب ماعداها، فرحل الوطن عن حمى القصيدة، واكتفى أن يكون تجربة تختبئ في تلافيف الهجر، ومجاهل النسيان.
وإذا كانت القصيدة الرومانسية قد وضعت الشاعر في برج عاجي بعيداً عن آلام الناس وآمالهم، فإن الراهن المؤسف قد وضعهم في سراديب اليأس، وظلمات القنوط، فلا ينظرون لأمتهم ؤسا، ولا يسمعون لها أنة، ولا يعيرونها أدنى التفاتة.
ولقد تمرد شاعر الهواجس على حالة الإحباط هذه، ولم تستطع جزائر المنفى الشعوري أن تغريه بترك الوطن، الذي راح يتلمس مواجعه - وما أكثرها – ويتحسس مكامن القوة، ويغني له باكيا، وناصراً، وحرضاً، فهو في قصيدة يقول:
يعيق انبلاج النور عن أفق أرضنا
خفافيش ليلٍ في سمانا تناطحُ
وكل ابتداء تعتريه نهاية
وإن زاغت الأهواء فالحق واضحُ
وفي موضع آخر يصرخ:
يعزُّ الذي قد حل في دار عزّنا
طواها الطوى وانساح عن أهلها الرفدُ
سنين عجاف ممحلات وكلما
ظننا انفراج الكرب تقسو وتشتدُّ

شجن مستعاد:
يلذ الزمن حين يصبح صدى في جوانب النفس، وذكرى في حنايا القلب، وشجناً مستعاداً تتملاه الروح كلما اصطدمت بقسوة الحاضر.
ولأن الشعر العربي بطبيعة الحال ملح على الماضي، فقد راح يبكي على الأطلال، ويسترجع الليالي الجميلة، وينوح على مضاعن الخلان، ويتذكر أيام الحمى متخذاً من استحالة رجوعها مندوحة لسكب الدموع:
وأذكر أيام الحمى ثمّ أنثني
على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست لييلات الحمى برواجع
إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
ولقد وقف شاعرنا بهواجسه على الأطلال، وتذكر بشجن دامع مراتع الصبا، ومرابع الأحبة، وراح يسكب تذكار الماضي نغماً ألذ من الزبيب:
أشهى من العسل المصفّى
بل ألذُّ من الزبيبْ
ذكرى تعودُ بنا إلى الماضي الحبيبْ
نسترجع الطيف المسافرِ كالغيومْ
طيف الطفولةِ حينما يرنوعلى الدنيا
كصفحة قلبه الصافي المصونْ
بيضاء تأخذ من خيوط الشمس زينتها
ومن خضرِ السنابل همسها
ومن صوت العصافير اللحون.
ولأن المكانُ يحتل حيزاً كبيراً في الذاكرة الشعرية العربية فقد طوف شاعرنا بعدد من الأماكن باحثاً فيها عن عرائس الشعر، ومستوحيا منها لحون المهاجر وهواجس الغريب، كما أنه طارح عدداً من معاصريه همومه وأشجانه مؤكداً أن الشعر كالحياة أو أنه إياها في جمالها وشجونها وأناسها الطيبين.

د/ عبدالولي الشميري
مؤسسة الإبداع – صنعاء
يونيو/ 2008م

 
  رجوع 
shimery.com
مقالات | ألبوم الصور | مؤتمرات | لقاءات صحفية | نشاط ثقافي
لمراسلة موقع السفير راسلنا علي
info@shemiry.com